ما أدري كيف أبدأ أو من وين. فيه لحظات في حياة الواحد تقلب كل شيء، تعيد تعريف الشغف، وتولّع في داخلك نار كنت تظنها رماد. قصتي بدأت برسالة على جوالي، رسالة من "ريم"، الصديقة اللي عرفتها أونلاين بس، واللي كانت جاية من الرياض لمدينتي لأول مرة. الرسالة كانت قصيرة: "أنا بالطريق. جهّز نفسك... المعركة قربت". قلبي دقّ بسرعة، ابتسمت ابتسامة خبيثة وأنا أرد: "من زمان وأنا جاهز. المكان ينتظرك".
كل شيء بدأ قبل سنة تقريبًا. كنت أقتل وقتي في واحد من جروبات الطبخ على فيسبوك. جروب كله حريم كبار ووصفات مكررة، وأنا الشاب الوحيد اللي داخل عرض، أشارك بصور لأطباقي اللي كنت أفتخر فيها. كنت أحب الطبخ، مو مجرد هواية، كان شغفي الحقيقي. فن، دقة، وإبداع. كنت أعتبر المطبخ هو مملكتي. وفي وسط كل تعليقات "شكراً" و"تسلم يدك"، كان فيه حساب واحد دايماً تعليقاته مختلفة. حساب باسم "شيف ريم".
تعليقاتها ما كانت مجاملات. كانت نقد. نقد بنّاء بس قاسي. "لون الصوص باهت، كان يحتاج كرملة أكثر". "تقطيع الخضار مو متساوي، يأثر على النضج". "ليش استخدمت هالنوع من البهار مع السمك؟ فيه خيار أفضل يعزز النكهة مو يغطي عليها". في البداية كنت أعصّب. مين هذي اللي جاية تتفلسف على شغلي؟ كنت أرد عليها بحدة، وندخل في نقاشات طويلة قدام كل أعضاء الجروب. نقاشاتنا كانت زي المبارزة، كل واحد فينا يحاول يثبت إنه هو اللي يفهم أكثر. هي من الرياض، وأنا من جدة، وحتى أسلوبنا في الطبخ كان مختلف مثل لهجاتنا. هي تميل للمطبخ النجدي الأصيل مع لمسة عالمية، وأنا عاشق للمطبخ الحجازي والمأكولات البحرية بتقديم عصري.
مع الوقت، تحولت المبارزات هذي لصداقة. نقلنا نقاشاتنا للخاص. كنا نسولف بالساعات، مو بس عن الطبخ، عن كل شيء. عن أحلامنا، عن مخاوفنا، عن الحياة. اكتشفت إنها إنسانة ذكية، طموحة، وعندها نفس الشغف اللي عندي، نفس النار. كنا نتبادل صور أطباقنا، ونتحدى بعض تحديات شبه يومية. "أتحداك تسوي طبق حلو بثلاث مكونات بس". "أتحداك تطبخ طبق إيطالي أصيل بدون وصفة". كل تحدي كان يزيد من قوة علاقتنا، ويزيد من الرغبة المشتعلة في داخلي... رغبة إني أقابلها وجهًا لوجه، ونحسمها مرة واحدة وللأبد. مين فينا الأفضل؟
ولما جت اللحظة هذي، لما أرسلت لي إنها جاية، حسيت بمزيج من الخوف والحماس. هذي مو مجرد صديقة جاية تزورني. هذي هي المنافس الوحيد اللي اعترفت فيه بحياتي. هذي هي الإنسانة اللي قدرت تشوف شغفي وتتحداه. الإحساس كان غريب، كأني على وشك أخوض أهم معركة في حياتي.
قضيت اليومين اللي قبل وصولها أجهز "الساحة". نظفت كل زاوية، لمّعت كل قطعة. تأكدت إن كل "سلاح" في مكانه، مشحوذ وجاهز. السكاكين تلمع مثل المرايا. القدور والمقالي مصقولة وتنتظر الأكشن. الثلاجة مليانة بأفضل المكونات اللي قدرت ألاقيها في السوق. كنت أبغى كل شيء يكون مثالي. هذا اللقاء لازم يكون أسطوري، ليلة ما راح ننساها أنا وهي طول عمرنا. كنت أبغى الأجواء تكون حميمية، الشغف يوصل لأعلى درجاته، والحرارة ترتفع لأبعد حد.
وصلتني رسالة ثانية منها: "وصلت الفندق. برتاح شوي وأجيك. لا تخاف، ما راح أطول عليك". الرد كان مني: "خذي راحتك. النار الهادية تعطي أفضل نتيجة". قفلت جوالي وأخذت نفس عميق. شغّلت موسيقى هادية، خففت إضاءة الصالة، وخليت بس الإضاءة المركزة فوق المكان اللي راح يشهد كل شيء. كنت واقف في النص، أطالع حولي وأحس بالتوتر يسيطر عليّ. يا إني بطلع من الليلة هذي أسطورة، أو بطلع مهزوم هزيمة ساحقة. ما فيه حل وسط.
سمعت صوت جرس الباب. تجمدت في مكاني لثواني. هذي هي. اللحظة المنتظرة. مشيت بخطوات بطيئة للباب، وكل خطوة كانت أثقل من اللي قبلها. فتحت الباب، وشفتها.
ريم كانت أجمل من كل الصور اللي شفتها. ابتسامتها كانت واثقة، وعيونها فيها لمعة تحدي أعرفها زين. ما قالت شيء، وأنا ما قلت شيء. كنا بس نطالع في بعض، والجو كان مشحون بالترقب. كأننا فرسان قبل مبارزة، كل واحد يقرأ لغة جسد الثاني، يحاول يكتشف نقطة ضعفه.
"المكان... حلو". قالتها بصوت هادي وهي تتأمل الصالة.
"الأهم من المكان هو اللي راح يصير فيه". رديت عليها وأنا أحاول أخفي توتري.
"علي".
"ريم".
مدّت يدها وصافحتني. مسكة يدها كانت قوية، واثقة. حسيت بكهربا خفيفة، مو كهربا رومانسية، كانت كهربا المنافسة، شرارة التحدي اللي كانت بيننا أونلاين وصارت حقيقية وملموسة.
"جاهز؟" سألتني وهي ترفع حاجبها.
ابتسمت. "انولدت جاهز. تفضلي... مملكتي بانتظارك".
دخلت ريم وراي، وخطواتها كانت محسوبة. عيونها كانت مثل السكانر، تمسح المكان وتفاصيله. ما راحت للكنب، ولا سألت عن شيء. اتجهت مباشرة للمكان اللي كنت مجهزه. وقفت قدامه، وحطت شنطتها على جنب. فتحت الشنطة وطلعت منها سكاكينها الخاصة، ملفوفة في قطعة قماش فاخرة. شفتها وأنا أبتسم. كنت متوقع هالشيء. المحارب الحقيقي ما يحارب إلا بسلاحه.
"قواعد المعركة؟" سألتها وأنا أوقف جنبها.
"بسيطة. ثلاث أطباق: مقبلات، رئيسي، وحلو. عندنا ثلاث ساعات. نستخدم أي مكون موجود هنا. واللي يطلع بنتيجة أفضل... هو الفايز".
"والحكم؟" سألتها.
ضحكت ضحكة خفيفة. "أنا وأنت. كل واحد فينا يقيّم الثاني بكل صراحة. ما فيه مجاملات الليلة يا علي".
"وهذا اللي أبغاه".
بدأ العداد. ثلاث ساعات. في اللحظة اللي ضغطت فيها على زر التوقيت، كل شيء في العالم اختفى. ما عاد فيه علي وريم، فيه اثنين "شيفز" في معركة شرسة. تحركنا في المطبخ بتناغم غريب، كأننا نرقص رقصة عنيفة. كل واحد فينا أخذ جهة، وبدأ الإبداع والجنون.
ما كان فيه كلام. كانت لغة العيون، صوت السكاكين وهي تقطّع بسرعة ودقة، أزيز الزيت الحار، صوت غليان القدور. كنت أراقبها بطرف عيني. حركاتها كانت سريعة، محسوبة، وكل خطوة تسويها كانت مدروسة. كانت مثل فنانة ترسم لوحة معقدة. وأنا؟ كنت أحاول أتفوق عليها. كنت أحاول أطلع كل اللي تعلمته، كل لمسة خاصة فيني، كل سر من أسراري.
الحرارة في المطبخ بدأت ترتفع. مو بس حرارة الأفران والمواقد، كانت حرارة الشغف، حرارة التحدي. العرق بدأ يتصبب مني، بس ما كنت حاس فيه. كل تركيزي كان على الطبق اللي بين يديني. كنت أسوي مقبلات عبارة عن "كارباتشيو" لحم بلمسة حجازية، مع صوص طحينة بالشمندر ودبس الرمان. فكرة مجنونة، بس كنت واثق إنها راح تنجح.
شفتها تفتح الفرن وتطلع صينية صغيرة. ريحة الخبز الطازج مع الأعشاب ملأت المكان. كانت تسوي نوع من الفوكاشيا بالزعتر والزيتون. الريحة وحدها كانت تعذيب. حسيت للحظة إني بديت أتوتر. طبقها يبدو بسيط، لكن أنا أعرف ريم، البساطة عندها تخفي وراها تعقيد كبير.
خلصنا المقبلات في نفس الوقت تقريبًا. حطينا الطبقين على الطاولة، كل واحد قدام الثاني. جلسنا، والصمت كان سيد الموقف.
"ابدئي أنتِ". قلت لها.
أخذت شوكة من طبقي، أخذت لقمة صغيرة، وغمضت عيونها وهي تتذوق. شفت كل تعابير وجهها تتغير. العقدة الخفيفة بين حواجبها، وبعدها شبه ابتسامة. كنت أنتظر حكمها على أحر من الجمر.
"اللحم ذايب ومقطّع باحترافية. الصوص... الصوص فيه جرأة ما توقعتها. مزيج الطحينة مع الشمندر حلو، بس دبس الرمان كان طاغي شوي. لو قللته نتفة كان صار مثالي. 8 من 10".
بلعت ريقي. 8 من 10. نقد قاسي كالعادة، بس دقيق.
جا دوري. أخذت قطعة من خبزها. كان دافي، وهش من برا وطري من جوا. نكهة الزعتر وزيت الزيتون كانت متوازنة بشكل مثالي. ما قدرت ألاقي غلطة.
"ريم... هذا... هذا مو مجرد خبز. هذا فن. 10 من 10".
شفت نظرة انتصار خفيفة في عيونها. الجولة الأولى لها.
رجعنا للمعركة. الجولة الثانية: الطبق الرئيسي. هنا لازم أعوض. قررت أسوي طبق "صيادية" سمك، بس بتقديم مودرن. راح أفصل الرز عن السمك، وأقدم السمك فيليه مع طبقة مقرمشة، والرز راح أسويه مثل "الريزوتو" بنكهة الصيادية، مع صوص خاص من مرق السمك المركز. مخاطرة كبيرة، بس لازم أبهرها.
هي اتجهت للحم. شفتها تتبل قطعة "ريب آي" محترمة. عرفت إنها راح تشويها. بس كيف راح تضيف لمستها الخاصة؟ كانت تشتغل على صوص غامض في قدر صغير، ريحته كانت معقدة، فيها شيء حلو، وشيء مدخن.
الوقت كان يمر بسرعة جنونية. صوت الأجهزة في المطبخ كان مثل سيمفونية صاخبة. كنا نتحرك بسرعة، نتفادى بعض بسلاسة كأننا تدربنا على هالشيء ألف مرة. كان فيه لحظات عيوننا تلتقي فيها فوق ألسنة اللهب، ونشوف فيها نفس النظرة: نظرة الاحترام الممزوج بالتحدي الشرس. كل شيء اشتعل، شغفنا، طموحنا، والمطبخ نفسه.
في آخر نصف ساعة، صار كل شيء فوضوي. أنا كنت أحاول أضبط قوام "الريزوتو"، وهي كانت تراقب درجة حرارة اللحم بدقة متناهية. صوت التايمر اللي يعلن نهاية الوقت كان مثل طلقة مسدس. توقفنا فورًا. الأطباق كانت جاهزة. شكلها كان خيالي. طبقي كان لوحة فنية بالألوان البنية والبيضاء، وطبقها كان قطعة لحم مثالية، لونها بني محروق من الخارج ووردية من الداخل، والصوص يلمع تحت الإضاءة.
نفس الطقوس. جلسنا. تذوقت طبقها أول. اللحم كان يذوب في الفم. درجة النضج كانت مثالية لدرجة كأنها انطبخت بالملي. والصوص... يا إلهي، الصوص كان عبارة عن خلاصة التوت البري مع لمسة خل بلسمي معتق وفلفل أسود مدخن. مزيج مجنون ومترابط بشكل عبقري.
"ما عندي كلام أقوله يا ريم. هذا أفضل ستيك ذقته في حياتي. 10 من 10". قلتها وأنا صادق بكل حرف.
ابتسمت ابتسامة حقيقية هذي المرة. شفت فيها فخر، مو غرور.
جا دورها. أخذت قطعة من السمك مع شوي من الريزوتو. طولت وهي تتذوق. كانت تحلل كل نكهة.
"فكرة الريزوتو عبقرية. نكهة الصيادية فيه واضحة وقوية. السمك مطبوخ صح، والطبقة المقرمشة إضافة ممتازة. لكن... الصوص حقك مالح شوي. لو الملح كان أقل، كان صار طبق عالمي. 9.5 من 10".
ابتسمت. 9.5. هزمتني مرة ثانية، بس بفارق بسيط. أنا فخور بالنتيجة. قدمت أفضل ما عندي.
باقي جولة الحلو. كنت منهك، بس الأدرينالين كان معبيني. شفتها تطلع شوكولاتة غامقة، كريمة، وتوت. عرفت إنها بتسوي شيء كلاسيكي وفاخر. أنا قررت أروح بالاتجاه المعاكس. شيء منعش، وحجازي أصيل. راح أسوي "الألماسية" بس بطريقتي. راح أقدمها مع جيلي بنكهة ماء الورد والهيل، وفتات فستق مكرمل.
بدأنا الجولة الأخيرة. التعب بدأ يظهر علينا. حركاتنا صارت أبطأ. بس التركيز كان أعلى من أي وقت مضى. هذي هي الجولة الحاسمة. كنت أشتغل على تبريد الألماسية بسرعة، وهي كانت تذوّب الشوكولاتة بحذر في حمام مائي. رائحة الشوكولاتة الذائبة اختلطت برائحة الهيل وماء الورد. كانت روائح متناقضة، مثلنا تمامًا.
في النهاية، حطينا الأطباق على الطاولة. طبقها كان "فوندان" شوكولاتة، كيكة صغيرة تنفجر منها الشوكولاتة السايلة أول ما تلمسها الشوكة. وطبقي كان كاسات الألماسية الشفافة اللي تظهر طبقات الجيلي والكريمة.
"هالمرة نبدأ سوا". قالت.
هزيت راسي بالموافقة. كل واحد فينا أخذ ملعقة من طبق الثاني في نفس اللحظة.
أنا ذقت الفوندان حقها. انفجار بركاني من الشوكولاتة الغنية والدافية في فمي. كان مثل الحضن الدافئ في ليلة باردة. إتقان ماله مثيل.
رفعت عيني عشان أشوف ردة فعلها. كانت مغمضة عيونها وهي تتذوق طبقي. شفت ابتسامة خفيفة ترتسم على وجهها.
فتحت عيونها وقالت: "منعش. الطعم يرجعني لذكريات الطفولة، بس بطريقة أرقى وأكثر تعقيد. حبيته. 10 من 10".
كنت مصدوم. أول 10 كاملة آخذها منها.
"الفوندان حقك... ما عليه كلام. 10 من 10".
صار فيه تعادل في الجولة الأخيرة. بس بالمجموع العام، هي فازت.
قعدنا نطالع في بعض، والمطبخ حولنا في حالة فوضى عارمة. صحون في كل مكان، بقايا أكل، وقدور تحتاج تنظيف. كنا مرهقين، بس سعداء.
"مبروك يا شيف ريم. فزتي". قلتها وأنا أبتسم.
"كانت معركة قوية يا شيف علي. أنت خصم يستحق الاحترام".
ضحكنا لأول مرة الليلة ضحكة صافية من القلب. التوتر كله راح. ما عاد فيه منافسة.
"تعرف؟" قالت وهي تتأمل الفوضى حولنا. "هذا كان أكثر يوم ممتع قضيته في حياتي".
"وأنا مثلك". رديت عليها. "كل الشغف، كل التحدي، كل اللي كنا نحس فيه أونلاين... كان حقيقي".
في هذيك الليلة، ما كان فيه أي شيء رومانسي بالمعنى اللي يمكن تتخيلونه. ما كان فيه لمسات أو همسات حب. بس كان فيه شيء أعمق وأقوى. كان فيه تلاقي روحين عندهم نفس الشغف، نفس النار الداخلية. النار اللي اشتعلت في مطبخي هذيك الليلة ما كانت نار رغبة جسدية، كانت نار الإبداع، والمنافسة الشريفة، والشغف اللي يخليك تحس إنك حي.
لما قابلت ريم، صديقتي من الرياض، كل شيء اشتعل فعلًا. وأنا عرفت وقتها إن هذي مجرد بداية لقصتنا، بداية لمغامرات وتحديات كثيرة جاية في الطريق. وهذي المرة، يمكن ما نكون خصوم، يمكن نكون فريق واحد.