الساعة كانت وحدة بعد منتصف الليل. الجناح الفندقي اللي كنت فيه يطل على المدينة كلها، أنوارها كانت مثل بحر من النجوم المبعثرة. هدوء وبراد مكيف، وصوت بعيد لسيارات ما تنام. كل شيء كان مهيأ لأي شيء ممكن يصير. بس أنا ما كنت أنتظر أي شيء. كنت أنتظرها هي. رشا.
الأوراق كانت مفروشة على الطاولة الكبيرة في نص الصالة. مخططات، رسومات، وأرقام معقدة. كانت هذي ساحة المعركة، وأنا كنت أنتظر وصول الخصم. قلبي كان يدق بطريقة غريبة، مزيج من التوتر والترقب، ونوع من الحماس اللي ما أقدر أنكره. علاقتي برشا ما كانت علاقة عادية. هي كانت المنافس اللدود، الزميلة اللي من شركة ثانية، واللي دايمًا كانت تسبقني بخطوة. كل مشروع ندخل فيه ضد بعض، كانت هي اللي تفوز فيه. كنت أكرهها؟ لا. كنت أحترمها لدرجة تخوف، وأحس بوجودها يتحداني أصير أفضل.
القصة بدأت قبل كم أسبوع. كنا نتنافس على أضخم مشروع معماري في المنطقة: برج أيقوني بيصير معلم جديد للمدينة. أنا قدمت تصميمي، وهي قدمت تصميمها. تصميمي كان جريء، منحنيات عضوية مستوحاة من الطبيعة، من كثبان الرمل وحركة الرياح. تصميمها كان العكس تمامًا، حاد، زوايا قوية، وخطوط صارمة تعبر عن القوة والحداثة. تصميمين مختلفين كليًا، وكل واحد فيهم عبقري بطريقته. العميل، وهو واحد من أكبر المستثمرين، وقع في حيرة. ما قدر يختار. فقرر يسوي شيء مجنون: قال أبغاكم أنتم الاثنين، وائل ورشا، تشتغلون مع بعض، وتدمجون التصميمين في رؤية واحدة. وعطانا مهلة مستحيلة: 48 ساعة.
وهنا أنا الآن. في فندق فخم حجزه العميل، في جناح تحول لورشة عمل، أنتظر وصولها عشان نبدأ الليلة الطويلة هذي. ليلة راح تحدد مصيرنا المهني. شربت من قهوتي اللي بردت. طالعت في المخططات مرة ثانية. كيف ممكن أدمج انسيابيتي مع قسوتها؟ كيف ممكن أخلي النار والموية يتعايشون في مكان واحد؟
سمعت صوت جرس الباب. أخيرًا. مشيت للباب وأخذت نفس عميق، حاولت أجمع كل ثقتي وأخفي أي أثر للتوتر. فتحت الباب.
كانت واقفة. لابسة بنطلون أسود رسمي وبلوزة حرير بيضاء. شعرها مربوط للخلف بطريقة عملية، بس كم خصلة متمردة نازلة على وجهها. نظارتها الطبية الأنيقة كانت تعكس إضاءة الممر الخافتة. ما ابتسمت. عيونها الحادة كانت تقيمني من فوق لتحت، وبعدين مسحت بنظراتها المكان اللي وراي.
"تأخرتي". قلتها بنبرة حاولت أخليها باردة.
"الطريق كان زحمة". ردت بصوت هادي وواثق، ودخلت الجناح بدون ما تنتظر عزيمة. سحبت وراها شنطة لابتوبها وحقيبة ثانية ما عرفت وش فيها.
"المكان فوضوي. أتمنى تكون منظم في شغلك أكثر من كذا". هذي كانت أول كلماتها وهي تطالع في الأوراق المبعثرة على الطاولة.
"هذي مو فوضى. هذي عملية إبداعية". رديت وأنا أسكر الباب.
حطت أغراضها على كنبة بعيدة، وتقدمت للطاولة. عيونها تحركت بسرعة على تصميمي. شفتها وهي تتأمل المنحنيات اللي كنت فخور فيها. ما قالت شيء، بس حسيت من نظرتها إنها مو معجبة.
"قهوة؟" سألتها عشان أكسر الصمت.
"أسود، بدون سكر". قالت وهي ما زالت مركزة في الأوراق.
رحت للمطبخ الصغير وسويت لها قهوتها. لما رجعت، كانت مطلعة لابتوبها وشابكته على الشاشة الكبيرة اللي في الجدار. تصميمها كان معروض عليها. خطوطه الحادة كانت مثل سكاكين تقطع في الفضاء. كان جميل بطريقة قاسية ومخيفة.
"تصميمك... شاعري زيادة عن اللزوم، وائل. المباني لازم تكون ثابتة، راسخة. تصميمك كأنه بيطير مع أول نسمة هواء". قالت بنقدها اللاذع المعتاد.
"وتصميمك قاسي، يا رشا. كأنه حصن، مو مكان الناس المفروض تحس فيه بالراحة. المباني لازم تتنفس، لازم يكون فيها روح".
وقفنا نطالع في بعض، الشاشة الكبيرة تفصل بيننا، تعرض الصراع بين رؤيتنا. واحد فينا لازم يتنازل. أو نلاقي طريقة نلتقي فيها في النص.
"ما عندنا وقت نضيعه في الفلسفة. العميل يبغى تصميم نهائي الصباح. يعني قدامنا حوالي 7 ساعات". قالت وهي تفك ساعة يدها وتحطها على الطاولة. "خلنا نبدأ".
وبدأنا. الساعات الأولى كانت جحيم. كل فكرة أقترحها، كانت ترفضها. وكل حل تطرحه، كنت أشوف فيه عيوب. كنا مثل قطبين متنافرين. صوتنا بدأ يرتفع. كنا نجادل، نتحدى بعض، ونحاول نفرض رؤيتنا.
"الواجهة الزجاجية المنحنية هذي مستحيل تتنفذ بهالحجم! التكلفة بتكون فلكية والمخاطر الهندسية عالية!". كانت تقول وهي تأشر على جزء من تصميمي.
"والكتل الخرسانية الصماء هذي بتخلي المبنى سجن! وين الإضاءة الطبيعية؟ وين الإحساس بالمكان؟". كنت أرد عليها بنفس الحدة.
تحول الجناح الفندقي لساحة حرب. أوراق مرمية في كل مكان. أقلام تخطط وتنشطب. أصواتنا صارت أعلى، والجو صار مشحون بالكهرباء. كنا ندور حول الطاولة مثل حيوانات مفترسة في قفص. قربنا من بعض، أجسادنا كانت تتلامس بالغلط وإحنا نمد يدينا لنفس القلم أو نفس المخطط. في كل مرة يصير هالشيء، كنت أحس بصدمة خفيفة، طاقة غريبة وموترة.
قصة جنسية سعودية المستأجرة الجديدة تطلب مني أصلّح لها المكيف وتقول "ما أقدر أنام من الحر"
"لازم نهدى". قلتها أخيرًا وأنا أحس بالإرهاق. "بهالطريقة ما راح نوصل لشيء".
جلست على الكنبة ومسحت وجهي بيدي. كانت الساعة 3 الفجر. ما وصلنا لأي تقدم يذكر. شفتها واقفة عند الشباك، تطالع في المدينة. ظهرها كان مستقيم، بس حسيت إنها متعبة مثلي.
"يمكن... يمكن لازم نبدأ من الصفر". قالت بصوت خافت، كأنها تكلم نفسها.
"وش تقصدين؟"
"ننسى تصميمي، وننسى تصميمك. خلنا نبدأ بورقة بيضاء". التفتت لي وعيونها كان فيها شيء مختلف. مو تحدي، كان... رجاء؟ "خلنا نفكر وش يبغى المبنى هذا يكون، مو وش نبغاه أنا وأنت نكون".
هالجملة ضربت فيني مثل الصاعقة. كانت صح. كنا غارقين في غرورنا لدرجة نسينا الهدف الأساسي.
قمت ووقفت جنبها عند الشباك. طالعنا في المدينة الصامتة تحتنا.
"وش تشوفين؟" سألتها.
"أشوف طاقة. حركة ما توقف. أشوف تاريخ ومستقبل في نفس المكان".
"وأنا أشوف ناس. أحلامهم، قصصهم. أشوف مكان يحتاج لقلب ينبض".
لأول مرة، حسيت إننا نشوف نفس الشيء، بس بلغة مختلفة.
رجعنا للطاولة. بس هذي المرة، ما كان فيه تصميمي أو تصميمها. أخذت ورقة بيضاء كبيرة، وقلم واحد حطيته في النص.
"أوكي. الأساس لازم يكون قوي، صلب. مثل تصميمك". قلت وأنا أرسم قاعدة المبنى بخطوط حادة وقوية.
شفتها ابتسمت ابتسامة خفيفة، أول ابتسامة أشوفها منها الليلة. أخذت القلم من يدي.
"بس كل ما ارتفعنا، لازم يصير أخف. لازم يتنفس. لازم يلامس السماء". قالت وهي تبدأ ترسم خطوط منحنية تطلع من القاعدة الصلبة اللي رسمتها. خطوطي وخطوطها بدأت تتشابك.
في هذيك اللحظة، كل الحواجز اللي بيننا انهارت. ما عاد فيه وائل ورشا. صار فيه كيان واحد، عقل واحد يفكر ويبدع.
الساعات اللي بعدها كانت ضبابية. ضباب من الإبداع الخالص. كنا نشتغل بتناغم مطلق. هي ترسم خط، وأنا أكمله. أنا أقترح فكرة، وهي تطورها. كنا نتكلم بسرعة، جملنا متقطعة، بس نفهم على بعض كأننا نقرأ أفكار بعض. الغرفة اللي كانت ساحة حرب، تحولت لمكان مقدس. حرارة الشغف والإبداع كانت أعلى من حرارة أي شيء ثاني. كنا ننسى نشرب أو ناكل. كل حواسنا كانت مركزة على الشيء اللي قاعد يتكون قدامنا.
"طيب والواجهة؟ كيف نخليها تجمع بين القوة والشفافية؟" سألتها وأنا أمسك راسي أحاول أفكر.
طالعت في الأوراق المرمية، وبعدين عينها ثبتت على شيء. قامت وجابت حقيبتها الثانية اللي كانت غامضة بالنسبة لي. فتحتها، وطلعت منها... قطع خشبية صغيرة، معادن، وزجاج. كانت جايبة معها عدة صناعة نماذج مصغرة.
"الكلام ما عاد يكفي. لازم نشوفه. لازم نلمسه". قالت وهي تفرش المواد على الطاولة.
بدينا نبني نموذج مصغر. أصابعنا كانت تشتغل بسرعة ودقة. يدي لمست يدها بالغلط وإحنا نثبت قطعة زجاج صغيرة. هذي المرة ما توترت. ابتسمت، وهي ابتسمت. كنا شركاء. شفت بقع حبر على خدها، وشعري كان منكوش. كنا في حالة فوضى تامة، بس في نص هالفوضى، كان فيه نظام كوني عجيب قاعد يتشكل.
مع أول خيوط للفجر بدأت تتسلل من الشباك، كنا حاطين اللمسات الأخيرة. وقفنا ورا، نطالع في النموذج اللي على الطاولة.
كان... مثالي.
كان برج يجمع بين القوة والرقة. قاعدته صلبة وراسخة، بس كل ما يرتفع، يتحول لخطوط انسيابية زجاجية تلتف حول بعضها وتصعد للسماء، مثل شعلة مضيئة. كان تصميمي وتصميمها، بس في نفس الوقت كان شيء جديد تمامًا، شيء أعظم منا إحنا الاثنين.
كنا ساكتين. صوت أنفاسنا المتعبة هو الشيء الوحيد اللي كان مسموع. التفت لها. الإرهاق كان واضح على وجهها، بس عيونها كانت تلمع بفخر وسعادة.
"إحنا... سويناها". قالت بصوت مبحوح.
"سويناها". رديت وأنا مو مصدق.
جلسنا على الأرض، مسندين ظهرنا على الكنبة. ما كان فينا حيل حتى نتكلم. بس كنا مرتاحين. كان صمت مريح، صمت اثنين شاركوا بعض في لحظة خلق نادرة.
"ما توقعت إننا ممكن نتفق". قلت وأنا أطالع في السقف.
"ولا أنا". ضحكت ضحكة خفيفة. "كنت أظنك مغرور ومتعجرف".
"وأنا كنت أظنك روبوت بدون مشاعر".
ضحكنا سوا. التعب، التوتر، كل شيء ذاب في هاللحظة.
الشمس أشرقت بالكامل، ونورها الذهبي غمر الجناح، وضرب في النموذج المصغر وخلاه يلمع مثل الجوهرة.
قامت رشا وجمعت أغراضها بهدوء.
"لازم أرسل الملفات النهائية للعميل". قالت وهي تضبط ملابسها اللي تجعدت.
"رشا". ناديتها. التفتت لي. "الليلة... كانت..." ما لقيت الكلمة المناسبة.
"كانت ليلة طويلة". قالت وهي تبتسم. "شكرًا يا وائل".
"شكرًا لك أنتِ".
خرجت من الجناح بهدوء مثل ما دخلت. وأنا بقيت وحدي، في وسط الفوضى الخلاقة اللي صنعناها. طالعت في النموذج مرة ثانية.
اللي صار في الفندق بعد منتصف الليل ما كان قصة عادية. كان ميلاد فكرة، كان دمج عقلين، كان تحويل صراع لشراكة. في هذيك الليلة، ما كسبت مشروع وبس. كسبت احترام خصمي، وكسبت شريكة ممكن أغير معها شكل العالم. شعلة الشغف اللي ولعت بيننا هذيك الليلة، ما راح تنطفي بسهولة. وأنا عرفت إن هذي مجرد بداية قصتنا.