مقدمة: لكل عائلة صندوقها الأسود، ركن مظلم لا تصل إليه الأضواء أبدًا، وزاوية منسية في الذاكرة يتظاهر الجميع بأنها غير موجودة. في عائلتي، كان هذا الصندوق حقيقيًا، وكان مدفونًا في المكان الذي لم نتوقعه أبدًا: تحت سرير أبي وأمي.
الفصل الأول: الصرخة التي بدأت كل شيء
اليوم ده بدأ زي أي يوم جمعة في الصيف. حر ورطوبة وخمول. الشمس كانت بتضرب في الشبابيك كأنها بتنتقم مننا، وأنا كنت قاعد في الصالة بحاول ألاقي فيلم عدل أتفرج عليه يضيع الملل اللي أنا فيه. أبونا وأمنا كانوا مسافرين الغردقة من يومين في أجازتهم السنوية اللي بياخدوها كل سنة لوحدهم، كنوع من تجديد شبابهم على حد قول أبويا. البيت كان فاضي وهادي، هدوء مريب بيكسروا صوت تكة الساعة اللي على الحيطة وصوت سلمى أختي وهي بتطنطن في المطبخ.
سلمى، أختي الصغيرة اللي في أولى جامعة، عندها طاقة غريبة مبتخلصش. قررت فجأة إن النهاردة هو "يوم النضافة العالمي لغرفة بابا وماما". طبعًا أنا اعترضت، إيه لزمة الشقى ده وهما مش هنا؟ لكن أمي كانت اتصلت الصبح وسلمى فتحت السبيكر، ووصيتها بالحرف: "قبل ما نرجع يا سلمى عايزة الأوضة دي بتبرق، ومتنسيش تنضفي تحت السرير كويس، عشان ضهري مبقاش يساعدني أوطي".
كانت جملة عادية، جملة أي أم مصرية ممكن تقولها. لكن النهاردة، لما بفتكرها، بحس بقشعريرة. كأنها كانت بتدينا مفتاح اللغز من غير ما تقصد.
"يا إبراهيم، بطل كسل وقوم ساعدني!"
صوت سلمى جالي من جوه. اتأففت وقومت وأنا بجر رجلي. "أساعدك في إيه يا فالحة؟ ما انتي اللي تطوعتي بالمهمة الانتحارية دي".
دخلت أوضة نومهم. الأوضة كانت كلاسيكية أوي، زي صحابها. دولاب ضخم، تسريحة بمراية كبيرة، وسرير... آه من السرير ده. سرير خشب زان تقيل، من النوع اللي ورثوه عن جدي وجدتي، ليه عواميد وأرابيسك، وتحس إنه بيحكي تاريخ. كان واطي وقريب من الأرض، والمسافة بينه وبين البلاط يا دوبك تسمح بدخول مكنسة.
"همسك أنا الزعافة وأنت عليك تشيل أي كراكيب من تحت السرير ده، شكله مليان بلاوي من أيام الفراعنة" قالت سلمى وهي بترميني كيس قمامة أسود كبير.
ميلت على ركبي وبصيت تحت السرير. ضلمة وريحة تراب ورطوبة. مددت إيدي وبدأت أطلع اللي الاقيه. علبة جزم قديمة فاضية، مجلات من بتاعت أبويا بتاعت زمان، كام فرده شراب يتيمة... حاجات عادية. لحد ما إيدي خبطت في حاجة ناشفة في آخر السرير من جوه.
"هبدأ أنا من الناحية التانية وأزقلك الحاجات" قالت سلمى وهي بتنزل على الأرض من الناحية المقابلة ليا.
عدت دقيقة، اتنين، والهدوء رجع تاني. هدوء غريب. "ها يا سلمى؟ نمتي ولا إيه؟"
مفيش رد.
"سلمى!" عليت صوتي شوية.
وفجأة، سمعت صوت مكتوم، صوت أنين، وبعدها صرخة هزت البيت كله:
"يا إبرااااهيييييم... إلحقني!"
قلبي وقع في رجلي. جريت على الناحية التانية من السرير في ثواني. اللي شفته خلاني اتجمدت في مكاني. سلمى كانت تحت السرير، نص جسمها بس هو اللي باين، وإيديها مفرودة على البلاط بتخربش فيه، وعينيها واسعة من الرعب.
"ساعدني! مش... مش قادرة أتحرك!"
الجملة دي مكنتش مجرد طلب مساعدة. كانت بداية الكابوس اللي هيقلب دنيتنا.
الفصل الثاني: الفخ الخشبي
"سلمى... إنتي بتعملي إيه عندك؟ بطلي هزار وقومي!" قلتلها وأنا بنزل على ركبي جنبها، بحاول أستوعب المنظر. عقل الواحد بيرفض يصدق الخطر في الأول، بيفترض إن كل حاجة هزار.
"وما بهزر يا إبراهيم... في حاجة ماسكاني، حاجة قافشة في رجلي جامد!" صوتها كان بيترعش، وبدأ يتحول لبكا مكتوم. الخوف اللي في عينيها كان حقيقي، حقيقي لدرجة إنه عداني.
مديت إيدي ومسكت دراعها. "طب اخرجي بالراحة طيب".
شدتها بكل قوتي. جسمها اتحرك معايا كام سنتي، وبعدين وقف فجأة كأنه اتسمّر في الأرض. صرخت صرخة ألم مكتومة. "آآآه... رجلي! بالراحة!".
"إيه اللي ماسكك طيب؟ قماشة؟ حتة حديد؟" سألتها وأنا بحاول أبص في الضلمة اللي تحت السرير، بس مش شايف أي حاجة غير خيال رجلها.
"مش عارفة... حاجة زي... زي ما يكون الأرض بلعتني!"
فكرة سخيفة عدت في دماغي: "إمتى تخنتي كده يا سلمى؟ ده انتي لسه كنتي من شهرين بتشتكي إنك رفيعة". حاولت أهزر عشان أخفف التوتر، لكن هزاري طلع بايخ ومكنش وقته.
ردت عليا بصوت مخنوق: "دي مش تخانة... أنا محشورة في حاجة... حاجة صلبة قفلت عليا".
هنا فهمت إن الموضوع جد. لازم أتصرف. الحل الوحيد كان إني أرفع السرير. فكرة تبان سهلة، لكنها كانت شبه مستحيلة. السرير ده مش زي سراير إيكيا الخفيفة بتاعت جيلنا. ده وحش خشبي، كائن أثري وزنه ممكن يعدي الـ 200 كيلو بسهولة. حاولت أزقه، محصلش. حاولت أرفعه من ناحية، كأني بحاول أرفع عربية.
"مفيش فايدة... تقيل أوي" قلت وأنا بنهج والعرق بدأ يغرق وشي.
سلمى بدأت تعيط بجد. "هفضل محشورة هنا؟ اتصرف يا إبراهيم أرجوك!".
العقل بدأ يشتغل. لازم أداة. حاجة ترفع. زي الرافعة في دروس الفيزياء. "العتلة! عندنا عتلة حديد قديمة في البلكونة أبويا بيستخدمها ساعات".
"هاتها بسرعة!"
جريت زي المجنون على البلكونة، قلبي بيدق في وداني. لقيت العتلة ورا دولاب الكراكيب القديم، كانت مصدية وتقيلة. رجعت بيها الأوضة، وأنا حاسس إني داخل معركة.
"سلمى، أنا هرجع أهو. اوعي تتحركي عشان معوركيش".
نزلت على الأرض تاني، ودخلت طرف العتلة تحت رجل السرير. اتكيت بكل وزني عليها. سمعت صوت خشب بيزيّق، والسرير بدأ يترفع ببطء... سنتي... اتنين.
"أيوه... بيترفع!" صرخت سلمى بصوت فيه أمل.
لكن وأنا بزق وبحاول أثبت السرير، لمحت حاجة غريبة. حاجة مكنتش واخد بالي منها. تحت السرير، في المكان اللي سلمى محشورة فيه بالظبط، لون البلاط كان مختلف. مش مجرد وسخ أو تراب. لأ، ده كان فيه خط رفيع، خط قاطع، كأنه بيرسم مربع في الأرضية.
وقتها، طرف العتلة خبط في حاجة تحت البلاط وعمل صوت مكتوم... "تك".
"استني يا سلمى... استني... في حاجة هنا مش مظبوطة". قلتلها وأنا بوقف رفع، وعقلي بيجمع خيوط اللغز الغريب. المشكلة مكنتش في السرير. المشكلة كانت في الأرض اللي تحته.
الاكتشاف المُرعب
نزّلت السرير بالراحة، وركزت نظري على المربع اللي في الأرض. كان مرسوم بدقة غريبة تحت السرير بالظبط، كأن السرير محطوط عشان يخبيه. قربت أكتر، وبصوابعي بدأت أتحسس الخط الرفيع ده. كان فاصل بين بلاطتين. حاولت أحرك واحدة منهم، متتحركش.
"إنت بتعمل إيه؟ ارفع السرير وخلصني!" سلمى صوتت، الخوف بدأ يرجع لصوتها تاني.
"ششش... اهدي. أنا شكلي فهمت إنتي محشورة في إيه. ده مش البلاط. دي زي... زي باب سري في الأرض!".
باستخدام طرف العتلة الرفيع، قدرت أدخله في الفاصل بين البلاطتين. وبشوية مجهود، سمعت صوت "كليك" خفيف، والبلطة اللي تحت رجل سلمى اتحركت لجوه نص سنتي. رجلها كانت محشورة في الفتحة دي.
"يا نهار أسود!" سلمى همست لما فهمت أنا بعمل إيه. "يعني أنا رجلي جوه حفرة؟"
مكنتش حفرة عادية. ده كان لوح خشب متغطي بطبقة شكلها زي البلاط بالظبط. لما ضغطت عليه بالعتلة، نزل لتحت وكشف عن فراغ أسود تحته. قدرت أوسع الفتحة كفاية إن سلمى تسحب رجلها بصعوبة. أول ما خرجت، جريت قعدت في ركن في الأوضة، بتعيط وهي ماسكة رجلها اللي كانت مزرقة ومجروحة.
أنا، من ناحية تانية، الفضول قتلني. نسيت خوف سلمى، ونسيت النضافة، ونسيت كل حاجة. كل تركيزي كان على الفتحة اللي في الأرض. باستخدام العتلة، رفعت اللوح الخشبي بالكامل. كان تقيل ومترّب. وتحته... مكنش فيه كنز ولا دهب.
كان فيه صندوق. صندوق خشبي قديم، مش كبير أوي، قد صندوق الجزم، وعليه قفل نحاسي قديم مصدي.
الفصل الثالث: وجوه من الماضي
فضلنا باصين للصندوق حوالي دقيقة كاملة من غير ولا كلمة. سلمى وقفت عياط، والخوف اللي على وشها اتحول لدهشة وفضول. أنا كنت حاسس بكهربا في جسمي كله، مزيج من الحماس والخوف. إيه اللي ممكن أبويا وأمي يخبوه تحت سريرهم بالطريقة دي؟
"هنفتحه؟" سلمى سألت بصوت واطي، كأنها خايفة حد يسمعنا.
"أكيد هنفتحه! ده إحنا اتبهدلنا بهدلة السنين بسببه".
مديت إيدي ونزلت جوه الحفرة. الصندوق كان مغطى بطبقة تراب كأن محدش لمسه من ثلاثين سنة. شيلته، كان وزنه متوسط. القفل النحاسي كان مقفول تمامًا ومفيش معاه مفتاح. بصيت لسلمى، بصتلي، وفهمنا إحنا الاتنين الحل: العتلة.
بضربتين تلاتة على القفل، النحاس القديم متحمّلش واستسلم. سمعنا صوت تكسير خفيف، والغطا بقى حر. أخدت نفس عميق، وحسيت بقلبي هيخرج من مكانه. رفعت غطا الصندوق ببطء.
أول حاجة قابلتنا كانت ريحة. ريحة ورق قديم، ريحة ذكريات محبوسة. مكنش فيه أي حاجة تلمع. كل اللي كان موجود جوه هو مجموعة صور فوتوغرافية قديمة، من بتاعت زمان اللي أبيض وأسود أو ألوانها باهتة، وكمية جوابات مربوطة بشريط ستان أحمر داب لونه من الزمن.
"صور؟ كل ده عشان شوية صور؟" قالت سلمى بنبرة فيها خيبة أمل.
"استني بس، أكيد الصور دي فيها حاجة مهمة" قلت وأنا بطلع أول صورة من الصندوق.
الصورة كانت لأبويا. بس مكنش أبويا اللي أنا أعرفه. كان شاب صغير، يمكن في أوائل العشرينات، شعره كثيف وأسود، ولابس بنطلون شاليستون موضة السبعينات. كان واقف جنب عربية فيات قديمة وبيضحك للكاميرا. اللي كان غريب إنه مكنش لوحده. كان معاه اتنين صحابه، وجوههم مش مألوفة لينا خالص. ملامحهم كانت حادة، ونظراتهم فيها جدية غريبة متناسبش جو الصورة.
طلعنا صورة تانية. المرة دي كانت لأمي. برضه صغيرة في السن، بشعر طويل وابتسامة هادية. كانت قاعدة في مكان شكله جنينة واسعة، ومعاها بنت تانية مش عارفينها، لابسين فساتين شبه بعض.
فضلنا نطلع الصور واحدة ورا التانية. عشرات الصور. كلها لأبونا وأمنا في مراحل مختلفة من شبابهم، ومعاهم نفس المجموعة من الوجوه الغريبة بتتكرر. شباب وبنات منعرفهمش، في أماكن عمرنا ما سمعنا إن أهلنا راحوها. بيوت قديمة شكلها أثري، أراضي زراعية واسعة، حفلات شكلها غريب والناس فيها لابسة لبس مش معتاد.
"إيه ده يا إبراهيم؟" سلمى همست وهي ماسكة صورة لأمي واقفة مع ست تانية شكلها صعيدي، والاتنين باصين للكاميرا بقلق. "هما الناس دي مين؟ وأبويا وأمي عمرهم ما حكولنا عن الفترة دي من حياتهم".
كنا بنحس إننا بنتفرج على حياة ناس منعرفهاش. أبويا وأمي اللي إحنا نعرفهم كانوا ناس عاديين جدًا. موظفين حكومة، حياتهم روتينية، أقصى طموحهم إنهم يطلعوا معاش ويقضوا باقي حياتهم في هدوء. الناس اللي في الصور دول كان شكلهم مختلف، كأن حياتهم كان فيها مغامرات وأسرار.
قلبنا في الصور لحد ما وصلنا لآخر صورة في الصندوق. كانت محطوطة لوحدها جوه ظرف قديم. لما طلعتها، إحنا الاتنين اتجمدنا في مكاننا. الهوا اللي في الأوضة حسيت إنه تقل فجأة.
الصورة دي كانت مختلفة. كانت بالألوان، وجودتها أحسن شوية. كان فيها عيلتين كاملين واقفين جنب بعض. على اليمين، أبويا وأمي، شكلهم أكبر شوية، يمكن في أواخر العشرينات. وعلى الشمال، راجل وست تانيين منعرفهمش، ملامحهم قوية ونظراتهم حادة زي اللي شفناهم في الصور القديمة.
لكن مش ده اللي صدمنا. اللي صدمنا كان في نص الصورة. أمي كانت شايلة طفل رضيع. والست التانية كانت حاطة إيدها على الطفل ده بحنية. طفل رضيع بعيون واسعة وشعر أسود ناعم.
"مين... مين الطفل ده؟" سلمى سألت بصوت بيترعش.
قلبت الصورة. على ضهرها، كان مكتوب بخط إيد أبويا تاريخ: "25 أكتوبر 1995".
بصيت لسلمى، وعينينا اتقابلت في لحظة فهم ورعب. أنا مولود سنة 1998، وسلمى سنة 2001. التاريخ ده كان قبل ما أي حد فينا يتولد بتلات سنين كاملة.
الفصل الرابع: العهد المكتوب بالدم
إحساس غريب بالخيانة بدأ يتسرب جوايا. خيانة مش مفهومة. كأن كل اللي عرفته عن عيلتي كان مجرد قشرة خارجية، والحقيقة كانت مدفونة في الصندوق ده. مين الطفل ده؟ وإيه حكاية العيلة التانية دي اللي واقفة معاهم بثقة كأنهم جزء مننا؟
"يمكن... يمكن ده قريبنا ومات وهو صغير؟" سلمى حاولت تلاقي تفسير منطقي، بس صوتها كان بيقول إنها مش مقتنعة.
"عمرنا ما سمعنا عن حاجة زي دي يا سلمى. ماما وبابا معندهمش إخوات ماتوا، ولا ولاد عم. إحنا حافظين شجرة العيلة صم".
رجعنا نبص في الصندوق تاني، كأننا بندور على دليل يبرئهم. تحت مكان الصورة، كان فيه ورقة صغيرة متطبقة أربع مرات، لونها مصفر من الزمن. فردتها بحذر، كانت هتتقطع في إيدي.
الكلام اللي كان مكتوب عليها مكنش جواب عادي. كان مكتوب بخطين مختلفين، خط أبويا، وخط تاني قوي ومزخرف معرفهوش. كانت عبارة عن سطور قليلة، لكن كل كلمة فيها كانت بتحمل وزن جبل.
"العهد ما بين العائلتين، عائلة الشناوي وعائلة الجارحي."
"الدم ما بين الأبناء، أمانة لا تُرَد إلا بالدم."
"السر ما بين الأحياء، يظل حيًا حتى يظهر من يحمله."
تحت الكلام ده، كان فيه توقيعين: "محمود الشناوي" (ده اسم أبويا)، و"سالم الجارحي". وجنب التوقيعين، كان فيه بصمتين إبهام بلون بني غامق... لون الدم القديم.
"الجارحي؟" سلمى كررت الاسم بصوت مسموع. "عمرنا ما سمعنا الاسم ده قبل كده".
"والكلام ده... ده كلام معناه إيه يا إبراهيم؟ عهد ودم وسر... ده كلام ميتقالش إلا في الأفلام".
قعدت على الأرض جنب سلمى، والصور والجوابات حوالينا زي أدلة في مسرح جريمة. حاسس إن دماغي هتنفجر من كتر الأفكار والأسئلة. عيلة تانية اسمها الجارحي. عهد سري. طفل رضيع غامض. وكل ده متسجل ببصمات دم. إيه الحقيقة المرة اللي أهلنا كانوا مخبينها عننا؟ هل إحنا لينا أخ تالت منعرفوش؟ ولا القصة أكبر وأعقد من كده بكتير؟
مسكت الجوابات المربوطة بالشريط الستان. كانت كلها من "سالم الجارحي" لـ "محمود الشناوي". فتحت واحد بشكل عشوائي. الخط كان صعب القراءة، واللغة كانت قوية، لغة ناس كبار وقديمة.
"صديقي محمود... الأمانة بخير، وتكبر يومًا بعد يوم تحت أعيننا. لكن الخطر يقترب، وظلال الماضي لن تتركنا وشأننا. كن مستعدًا دائمًا. العهد لا يزال قائمًا."
فتحت جواب تاني.
"محمود... لقد ظهروا مجددًا في الأراضي القديمة. يسألون ويبحثون. يجب أن نكون أكثر حذرًا. الولد يجب أن يظل في الخفاء. حياته وحياتنا تعتمد على هذا."
كل جواب كان بيفتح باب جديد من الغموض. خطر؟ ماضي؟ أراضي قديمة؟ مين دول اللي بيبحثوا؟ ومين هو "الولد" الأمانة اللي بيتكلموا عنه؟ مع كل سطر كنت بقرأه، صورة أبويا وأمي، الناس الطيبين المسالمين، كانت بتتهز جوايا. كانوا جزء من حاجة خطيرة، حاجة خلتهم يدفنوا ماضيهم كله في صندوق تحت السرير.
"إبراهيم..." سلمى قطعت الصمت بصوت مرعوب. "أنا... أنا خايفة".
لسه هاجي أطمنها وأقولها أي كلام، أي حاجة تهدينا إحنا الاتنين... وفجأة، سمعنا صوت كلاكس عربية عالي جاي من الشارع. صوت مميز، مش زي أي كلاكس عادي. صوت قوي وفخم.
"إيه ده؟" قلت وأنا بقوم أقف.
سلمى نطت وقفت جنبي. "يمكن الجيران؟"
قلبي بدأ يدق بسرعة من غير سبب واضح. "الجيران محدش فيهم عنده عربية بالكلاكس ده".
مشينا على طراطيف صوابعنا لحد شباك الأوضة اللي بيطل على الشارع. زي الحرامية، زقينا الستارة حتة صغيرة أوي وبصينا. اللي شفناه خلانا نرجع لورا بسرعة كأننا اتكهربنا.
كانت عربية مرسيدس سودا، ضخمة، وإزازها فيميه. واقفة بالظبط قدام باب بيتنا.
"بابا وماما رجعوا!" سلمى صرخت بصوت مكتوم. "يا نهار أسود والكركبة اللي إحنا عملناها دي!".
لكن عقلي كان بيقول حاجة تانية. "لأ... مستحيل. دي مش عربية بابا. وبعدين هما المفروض في الغردقة، ميعاد رجوعهم بعد يومين!".
باب العربية اللي ورا اتفتح. ونزل منه راجلين. طوال، ضخام، لابسين بدل سودة ونضارات شمس، رغم إن الشمس كانت بدأت تميل للمغيب. ملامحهم جامدة ومبتتحركش.
وبعدين، باب السواق اتفتح، ونزل منه راجل تالت. راجل كبير في السن، شعره كله أبيض، ولابس جلبية صعيدي لونها بيج، وماسك في إيده عصاية خشب شكلها فخم. رغم سنه، مشيته كانت ثابتة، ونظرته كانت موجهة لهدف واحد بس: باب بيتنا.
في اللحظة دي، إحنا الاتنين فهمنا. الناس دي مش جاية بالصدفة. الناس دي... جايالنا إحنا.
قصة سكس سعودية لما دخلت على كاميرتها عن طريق الخطأ وشفت كل شيء
الفصل الخامس: المواجهة
ثواني من الصمت المرعب. أنا وسلمى باصين لبعض، عينينا واسعة، وبنسمع دقات قلبنا كأنها طبول حرب. فكرة الهروب كانت أول حاجة جت في بالي. نهرب من الباب الخلفي، نستخبى عند الجيران، أي حاجة.
"إبراهيم... إحنا لازم نهرب من هنا حالًا" سلمى همست، وكأنها بتقرأ أفكاري.
لميت الصور والجوابات بسرعة وحطيتهم في الصندوق، ورجعت الصندوق مكانه في الحفرة وغطيتها باللوح الخشبي. مش عارف عملت كده ليه، يمكن غريزة البقاء، أو يمكن عشان أحافظ على الدليل الوحيد اللي معانا.
لكن وأنا بقوم، حاجة جوايا اتغيرت. خليط من الخوف والغضب والفضول. نهرب نروح فين؟ وإلى متى؟ الناس دي شكلها عارفة إحنا مين ومكاننا فين. لو هربنا النهاردة، هيلاقونا بكرة. ولأول مرة في حياتي، حسيت بمسؤولية. مسؤولية إني أفهم، وإني أحمي أختي.
"لأ. مش هنهرب". قلت بصوت حاولت أخليه ثابت. "ده بيتنا. هنفضل هنا ونشوف هما عايزين إيه".
"إنت اتجننت؟ مشفتش شكلهم عامل إزاي؟ دول ممكن يكونوا عصابة!".
عينيا جت على عصاية بلياردو قديمة بتاعت أبويا كانت مركونة في ركن الأوضة. مسكتها في إيدي. كانت تقيلة وصلبة. "لو فكروا يعملوا حاجة، مش هسكتلهم".
في نفس اللحظة دي، جرس الباب رن. رنة واحدة، طويلة، وواثقة.
سلمى شهقت وحطت إيدها على بوقها. أنا أخدت نفس عميق، ومسكت عصاية البلياردو بقوة، ومشيت ناحية باب الشقة. سلمى كانت ماشية ورايا وماسكة في قميصي.
بصيت من العين السحرية. الصورة كانت واضحة. الراجل العجوز أبو جلبية واقف لوحده قدام الباب، والراجلين التانيين واقفين تحت عند مدخل العمارة. ملامح الراجل العجوز كانت هادية، لكن عينيه فيها نظرة حادة وقوية، كأنها بتخترق الباب وشايفاني.
الجرس رن تاني.
"مين؟" سألت بصوت حاولت أخليه خشن وميهتزش.
صوته جالي من ورا الباب. صوت أجش، فيه بحّة الزمن، لكنه واضح وقوي. "افتح يا إبراهيم. أنا مش جاي أأذيك".
دمي اتجمد في عروقي. "إنت... إنت تعرف اسمي منين؟"
مجرد سؤالي كان غبي. لو هو عارف بيتنا، أكيد عارف أسماءنا. سمعته بيتنهد تنهيدة طويلة. "أنا أعرف عنك أكتر مما تتخيل يا ابني. افتح، الكلام اللي عندي لازم يتقال وش لوش".
بصيت لسلمى. هزت راسها بالرفض وعينيها مليانة دموع. لكن قراري كان اتاخد. لو في سر بالعظمة دي، يبقى ده وقت كشفه. لفيت المفتاح في الباب مرتين، وفتحت الباب ببطء.
وقف قدامنا. كان أطول مما تخيلت، وجسمه رغم سنه كان لسه محتفظ بقوته. التجاعيد اللي في وشه كانت زي خريطة مرسومة، كل خط فيها بيحكي قصة. عينيه كانت أكتر حاجة مميزة، لونها بني فاتح، وفيها حزن وحكمة سنين طويلة.
فضل باصصلي أنا وسلمى لثواني، كأنه بيتفحص ملامحنا، بيشوف فينا حاجة هو بيدور عليها. وبعدين، ابتسامة حزينة اترسمت على شفايفه.
"إبراهيم... وسلمى. سبحان من له الدوام. كبرتوا، وبقيتوا صورة طبق الأصل من أبوكم وأمكم".
سلمى استجمعت شجاعتها وقالت بصوت متقطع: "إنت مين؟ وعايز مننا إيه؟"
الراجل العجوز دخل خطوة جوه الشقة، وقفل الباب وراه بهدوء. بص في عينينا مباشرة، وقال الجملة اللي كانت بداية النهاية وبداية كل شيء جديد:
"أنا جدكم... سالم الجارحي".
الفصل السادس: الحقيقة المُرّة
الصمت اللي نزل على الشقة بعد الجملة دي كان أتقل من الرصاص. أنا وسلمى فضلنا واقفين مكاننا، بنحاول نستوعب الكلمتين دول. "جدكم". الكلمة دي ملهاش أي معنى في قاموس حياتنا. أبويا طول عمره بيقولنا إن أبوه وأمه، أجدادنا، ماتوا في حادثة عربية وهو لسه شاب صغير. دي كانت الحقيقة الثابتة اللي كبرنا عليها.
"إزاي؟" سلمى كانت أول واحدة تتكلم، صوتها كان مجرد همس مصدوم. "أبويا قال... قال إن جدنا مات من زمان!".
سالم الجارحي هز راسه بحزن. "أبوك كان لازم يقول كده يا بنتي. كان لازم يقتلني في حياتكم عشان يحميكم".
"يحمينا؟ يحمينا من إيه؟ ومنك إنت؟" قلتها وأنا بحاول أظهر أي نوع من القوة، رغم إن إيدي اللي ماسكة عصاية البلياردو كانت بتترعش.
الراجل العجوز تجاهل العصاية اللي في إيدي، ومشي بخطوات بطيئة ناحية الصالون، كأنه عارف البيت شبر شبر. قعد على أقرب كنبة، وحط عصايته جنبه. كان بيتحرك بهدوء وثقة واحد صاحب مكان. "اقعدوا يا ولاد. الكلام طويل، والليل لسه في أوله".
بعد تردد، قعدنا أنا وسلمى على الكنبة اللي قدامه. المسافة بينا كانت مليانة بالشك والخوف والأسئلة.
"عيلتكم، عيلة الشناوي، وعيلتي، عيلة الجارحي، مربوطين ببعض بعهد قديم أوي. عهد دم وأرض وشرف" بدأ سالم كلامه، وصوته كان بياخدنا لزمن تاني خالص. "القصة بدأت من أجيال فاتت، لما كان جد جدك وجد جدي أصحاب أكتر من الإخوات. كانوا بيملكوا أراضي واسعة جنب بعض في بلد في الصعيد. لكن زي أي قصة، دخل فيها طرف تالت، عيلة تالتة... عيلة طمعانة وقوتها في شرها. كانوا عايزين ياخدوا أراضينا بأي تمن".
كان بيحكي كأنه بيقرأ من كتاب تاريخ قديم. "حصلت مشاكل كتير، خناقات، ودم. وفي النهاية، عشان يحموا أراضيهم وعيالهم، جدودنا عملوا العهد اللي إنتوا لقيتوه. عهد إن العيلتين هيفضلوا إيد واحدة، ودمهم هيفضل يحمي بعض. والسر... سر مكان كنوز وأوراق مهمة تثبت ملكيتنا للأرض، هيفضل مدفون ومحدش يعرف مكانه غير وريث واحد من كل عيلة".
"بس... ده كلام من زمن فات. إيه علاقته بينا دلوقتي؟" سألت وأنا بحاول أربط الخيوط ببعضها.
عينين سالم الجارحي ركزت عليا. "لأن الدم مبيتنسيش، والتار بيفضل عايش. العيلة التالتة دي فضلت مستنية، جيل ورا جيل، مستنيين اللحظة المناسبة عشان يرجعوا ياخدوا حقهم المزعوم. وفي جيل أبوك... قرروا يتحركوا".
"أبوك، محمود، وأنا، كنا زي آبائنا، أكتر من الإخوات. كنا إحنا اللي ورثنا السر. وفي يوم، اكتشفنا إنهم بيراقبونا، وإن الخطر بقى قريب جدًا. في نفس الفترة دي، ربنا رزقني بابني الوحيد، ورزق أبوك... بابنه البكر".
قلبي دق بعنف. "ابنه البكر؟ قصدك...؟"
هز راسه. "الطفل اللي في الصورة. أخوكم الكبير. لما اتولد، عرفنا إنه بقى هو الهدف. لأنه كان الجيل الجديد اللي هيحمل السر. عشان نحميه، عملنا خطة مجنونة. خطة كانت تمنها إن أبوك وأمك يتخلوا عن ابنهم، وأنا أختفي من حياة الكل. أعلنّا إن ابني مات، وأبوك أعلن إن أبوه مات، يعني أنا. وهربنا كلنا من البلد وجينا على القاهرة. أبوك وأمك بدأوا حياة جديدة تمامًا، وقطعوا كل علاقتهم بالماضي. وأنا... أنا أخدت الولد وربيته بعيد عن عيون أي حد، على إنه ابني أنا وحفيدي في نفس الوقت".
الكلمات كانت بتنزل علينا زي المطرقة. أخ... لينا أخ كبير عايش. وأهلنا اتخلوا عنه عشان يحموه. وجدنا اللي مفروض ميت، كان هو اللي بيربيه طول السنين دي.
"طب... طب هو فين دلوقتي؟ أخونا ده فين؟" سلمى سألت والدموع بتجري على خدها.
نظرة قلق ظهرت على وش سالم لأول مرة. "وهو ده السبب اللي خلاني أظهر النهاردة. بقالنا سنين عايشين في أمان نسبي. لكن من كام أسبوع، بدأوا يظهروا تاني. عرفوا مكان أبوكم وأمكم. السفرية بتاعت الغردقة دي مكنتش أجازة. دي كانت طعم. هما استدرجوهم عشان يضغطوا عليهم ويعرفوا مكاني أنا والولد".
وقف على حيله فجأة، ونظرته بقت حادة زي الصقر. "أبوكم كلمني قبل ما يمشوا، وقالي لو حصل أي حاجة، آجي وأعرفكم الحقيقة. لأنكم دلوقتي بقيتوا جزء من المعركة. حياتكم في خطر. لازم تمشوا معايا من هنا. حالًا".
وقبل ما حد فينا يرد أو يستوعب حجم الكارثة، تليفون سالم الجارحي رن. بص في الشاشة، وملامحه اتغيرت للأسوأ. رد، ومقالش غير كلمة واحدة: "أيوة".
فضل يسمع للطرف التاني، وعينيه بتتحرك في الأوضة بقلق. وبعدين وشه بقى شاحب، وإيده اللي ماسكة التليفون ارتعشت. قفل الخط وبص لنا. في عينيه، كان فيه نظرة عمرنا ما هننساها. نظرة الهزيمة والخوف الحقيقي.
"فات الأوان" قال بصوت مخنوق.
"أبوكم وأمكم... اتقبض عليهم".
"والولد... أخوكم... اتخطف".
قصة جنسية اخوات مصرية اللي لقيته في غرفة نوم أبويا مع اختي فرح خلى حياتنا تتغير للأبد